حين ينفصل جسد الشاعر عن روحه لا يموت مثلما يموت غيره، بل يكون الموت إيذانًا باكتمال تجربته ليبقى الأثر. تفوح الكلمات التي وضعها بعناية بين بساتين القصائد، ويسافر عطرها في رحلة لا نهائية لتشحذ الحواس بحُبّ الجمال. هذا ما يحدث عندما يؤول جسد الشاعر إلى التراب. ولن يمرُّ خبر وفاة شاعر فائق العذوبة والغنائية – بالمعنى الشامل للغنائية – مثل الأمير بدر بن عبد المحسن، دون أن نستذكر الرقة التي تخلَّقت في شعره، وما خلَّفه من عطر يُلامس حواسنا كلما استمعنا إلى شعره مجردًا أو على جناح الأداء المُطرِب في نسيج الأغاني.
تنبع جمالية الشاعر الأمير – أمير الكلام العذب – من ثنائية التعبير الحر عن حاجة الإنسان على الدوام إلى الحب، وكذا من ذلك السحر النابت من توليف الكلام على نحوٍ يُجبر معه كل صاحب حس موسيقي على التغني به. هذا المزيج السحري المدهش، والذي يستعصي إلا على الشاعر المطبوع ذي الدربة الواسعة، هو سر انجذاب غواة الشعر والغناء في توهجه العالي إلى نظْم الأمير البديع.
في الحكمة والحب والوطن وغيرها من غايات الشعر وضروبه، ينظم الشاعر فتجده هو هو، يمتح من بحر الرقة الواسع، ويملأ دلاء شعره من أنهار العذوبة، وينساب شعره دون عناء إلى غرف القلوب فينبض في عروق الحياة، موقظًا الحواس، ولافتًا ببراعة إلى الجمال أينما وُجِد. يُطوِّع الشاعر الكلمات لتتشكل في ظلال الخيال الخلاق، كعناصرَ في مسرح القصيدة المُدهش.
“بحثتُ عن الشعر فوجدته في مكان آخر”، عبارة وردت على لسان الشاعر في إحدى الأمسيات الشعرية التي بث فيها شعره فرَوَى يباس القلوب، وهذا لعمر الشعر، حال الشاعر، في بحثه القلق عن المصدر الغامض لجوهر الشعر في خُلد الإنسان.
نصَّبَ الأمير بدر بن عبد المحسن الشِّعر السعودي سفيرًا فوق العادة للثقافة السعودية، فكتب مُعبِّرًا عن أحوال الإنسان حين يكون مُحبَّاً بصدق، ومُتخلِّقًا بفضائل المروءة والكرم، فالإنسان في النموذج الأعلى لشِعره مجبولٌ على النبل وأحسن الطبائع.
هذه النزعة الإنسانية شهدها حضور أمسية «ناي» التي ألقى فيها اثنتي عشرة قصيدة باللغة العربية وترجمت مباشرة إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وسط حضور ثقافي تجاوز 400 شخصية من مختلف دول العالم. في مقر منظمة اليونيسكو في باريس، احتفالاً باليوم العالمي للشعر عام 2019م، وقد كرمته يومها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو» نظير إسهاماته الشعرية والثقافية المتفردة. وقد خاطب الجمع الغفير قائلاً: «أنا مواطن جئت من المملكة العربية السعودية، هوايتي الرسم، وعملي كتابة الشعر، منذ أكثر من أربعين عامًا، كتبت الشعر العربي المحكي، والمُغنى، وقصائدي هذه الليلة سألقيها باللغة العربية».
كان لا بد للروح الشاعرة أن تتوثب إلى تصور ما يموج من تفاصيل الحياة بصريًا، فاتخذت الرسم أسلوبًا آخر، لتتسع رؤية الشاعر للون، فليس مفاجئًا أن يكون رسامًا تعرض لوحاته في مقر اليونسكو بباريس.
للشاعر خمسة دواوين وقد جمعت في الأعمال الشعرية التي صدرت في العام 2022، وما يفوق المائة قصيدة مغناة، لعمالقة الغناء الخليجي والعربي، حاملةً على متنها الشعر السعودي إلى آفاق الحداثة والحياة العصرية، ومؤثرة تأثيرًا عميقًا في الوجدان العربي من خليجه إلى محيطه. وله عشرات من القصائد الوطنية وأعمال الأوبريت، كان أشهرها “فوق هام السحب”، وغناها المطرب السعودي القدير محمد عبده، ليجري اختيارها للكتابة على القطعة الأخيرة التي على القمر السعودي للاتصالات الأول قبل إطلاقه ليُحلّق في الفضاء.
واتسعت إسهامات الراحل للمجال الثقافي عامة وليس فقط الشعر، بتأسيس مؤسسة بدر بن عبد المحسن الحضارية، التي تسهم إسهامًا بارزًا في رفد الحراك الثقافي في البلاد، وهو الشاعر والمثقف الجدير بقيادة العمل الثقافي، إذ تسنّم من قبل رئاسةَ الجمعية السعودية للثقافة والفنون عام 1973.
واختارت دولة الكويت البدر «شخصيّة مهرجان القرين الثقافي» في دورته الـ28 بوصفه أحد الشخصيات التي أثرت الثقافة وأعطتها أبعاداً إنسانية وأطلقت العنان لآفاقها الإبداعية الخلاقة.
كما منحَ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- الأمير بدر بن عبد المحسن «وشاح الملك عبدالعزيز»؛ تقديرًا لإسهاماته وجهوده في خدمة المشهد الثقافي السعودي.
وفوق ذلك، كرَّمت الشاعرَ الراحلَ الأفئدةُ التي ربّى مشاعرها على القيم الإنسانية الرفيعة. وكما احتل شعره مكانه بين قلوب جمهور الشعر، سيظل الأمير البدر رمزًا ثقافيًا سعوديًا مؤثرًا لأجيال وأجيال.