هل تُمكّن الملاعب دهشة اللغة؟

الضحكة التي ملأتنا بعد صفارة الحكم في أستاد لوسيل لم تكن لأجلِ الفوز ذاته فقط، بل للفرحة التي انتشرت كالبرق من الدوحة حتى جبل طارق بفوز منتخبنا السعودي والمغربي، الفرحة التي رقصَ معها العالم العربي بهتافات عربية واحدة؛ ملأت البيوت ضحكاتٍ ودهشة لا تسعها وحدها..

ضجيج الهوية الذي صاح به فوز المونديال أعاد لنا أملا.. هذه الوحدة التي وَشَت بها اللغة، بهتافات واحدة من الشرق حتى الغرب.. بلغة عربية مفهومة لا تخطئها أذن.. أحيَت هذا الاعتزاز الهوياتي الذي كدنا نفقده.

من صغرنا ولا زلنا.. نؤمن بأثر اللغة على الهوية والهيمنة، القوة الناعمة التي آمن بها الساسة المستعمرون منذ خطُّوا خطواتهم الأولى للتوسع الإمبريالي؛ فكانت تُفرضُ لغة المستعمِر لصهرِ لغة المتسعمَر.. إلى صهر هويته وذوبان شخصيتهِ في المستعمِر حتى يتحدث بلسانه ويفكر بعقله ويناضل لقضيته. استقلت البلاد المُستعمرة. لكن وطأة المستعمر ثقافيًا ما زالت حتى اليوم. وهكذا تصنع اللغة. القوة الناعمة التي لا تخطئ.

ولو لم يكن الصوت الثقافي المناضل اليوم لإحياء اللغة والتمسك بها أقوى منه في أي وقتٍ مضى، لتفلّت اللسان العربي بسبب الهيمنة النفسية وعقدة الحضارة والتطور المرتبطة باللغة، إلا أنه مع كل عام.. ومع تعالي الأصواتِ هنا.. يقلُّ المؤمنُ بها هناك.

الوعي الذي جاء به المونديال لم يكن كرويًا هذه المرة فقط؛ إنما هوياتي لغوي، من حديث رئيس الفيفا وحتى تصريحات اللاعبين بالعربية؛ ولسنا بحاجة لذكر الأمثلة على الدول التي تمنع اليوم التحدث بغير لغتها في مؤسساتها ومرافقها ومدارسها لإيمانهم بأن التبعية اللغوية تعني تبعية فكرية وثقافية واندثارًا للهوية ، فاندثارًا للغة الأم أو حتى موتها..
وكذا تموتُ اللغات.. بهجران أهلها لها.

اللغة هي عنوان الوجود والهوية، مخزن مقومات الانتماء، وذاكرة المستقبل، ولا تزول إلا بزوال الأمة وانصهارها، فهي مكنونها ومصدر تحديد الملامح الأساسية المعبرة عن طبيعتها، المرتبطة بثقافتها.. بالتراث، الماضي والحاضر، وهي تحدد ملامح المستقبل بتطورها مع تطور العلاقات الإنسانية والتقنية، وإن ترك تطويرها أهلها، ظهرت جملة: “لم أجد لهذه الكلمةمرادفًا عربيًا”.

كما في كل مرة، ستنهال سمفونية التبريرات التي أعتدت:
“الأجنبية لغة القوة والعلم والحضارة” لنِشي لك: ما هذا إلا انهزامٌ نفسي مُمنطق كما قال ابن خلدون. اللغة تساوي الهيمنة وترتبط بها، وهذا يعني القوة، لكن اللغة ليست هيمنة في نفسها، بل هيمنة من يعلّيها أو من يميتها. وإذا ما انكسرت حدة هذا الانبهار، تضاءلت سمفونية الانهزام.

يقول سابير-وورف في نظريته: “النسبيَّة اللُّغوية” إن أفعال الفرد وأفكاره تختلف من لغة إلى أخرى، فالتفكير والكتابة باللغة الأم أكثر أصالة وعمقًا، وإن أيَّ لغةٍ معيّنة لا بد أن تفرض نمط تفكير معيّن.
وهذا يعني: أن اكتساب اللُّغة الأم يتزامن مع اكتساب الفرد أول أدوات التفكير، وينمو الإدراك الحسيّ والذهني لديه بتطوره اللُّغوي باللُّغة الأم، وكلما ابتعد عنها صار وقع الخلل!

أتعرف ما أكبر مشاكل الاستمرار بهذا الانهزام اللغوي؟
هو أن اللُّغة هي الركيزة التي تحفظك من عدم التماهي الكليّ في الآخر، مهما بدت نفعيَّة التماهي معه مغرية ويسيرة؛ ذلك أن التماهي الكليّ المحض؛ هو إلغاء كليّ للذات وللوجود. إن اللُّغة تساوي وجودنا؛ لأنها الحضور الحقيقي للهُويَّة. وذلك لكونها “مرتبطةً بعملية نقل الثقافة من جيل إلى جيل” كما يقول وِيل ديورانت. فإذا انهزمت؛ تماهيت.. وذاتكَ ألغيت.

تتجلَّى مكمن القيمة في العناية باللغة في الحضور الهُويَّاتي، لأنها تعبيرٌ عن ماهية وهُويَّة، وتقترن هُويَّة الأفراد والمجتمعات بوجودهم، ولا يمكن الاستعاضة عن الهُويَّة المقترنة بالوجود بأداة أخرى، ولا يمكن توظيفها في لغة أخرى، لأن اللُّغة رديفة الهُويَّة وماهيَّتها في أجلى تصويرٍ تجريدي لما تعنيه لغة المرء وصوته؛ الذي هو رصد لتعبيراته وحروفه التي توثِّق فكره وثقافته، فلا وجود لحضارةٍ في التاريخ نهضت بلغة غيرها إلا أن تكون رديفة لها.

نؤمن حقيقة أن وعي الرموز والقادة والحكومات لهذه المفاهيم التي تعكس قوتهم وتحافظ على حضارتهم وتبنيهم لها -كما حدث اليوم- هو من أقوى ما يدعو الناس إلى تبنيها والإيمان بها والمناضلة لأجلها، فالناس تبعٌ لمن هو أعلى منهم، وتحدّث رمز يحبه الناس بهذا الخطاب واعتزازه به لهو أعظم من ألفِ خطاب ومؤتمر.

شارك المقال مع أصدقائك
الدبلوماسية الثقافية

رحلة الحج.. مجمع الثقافات

“ذَرَعَتْ كُلَّ إفريقيا وهي لا تفترُ وسواكن وجهتها – بحرها الأحمرُ فالحجاز إنها الآن في شارع من مدينتنا فانظروا ها هي الحاجة ربطت طفلها بحزام على ظهرها – وجهه الأغبرُ عظمة نتأت من عظام مائل رأسه الضخم: فرخ نعام تطلع من بيضة دهشاً، أو كما يفعل الكنغرُ وسعت في الطرق يا ترى ما اسمها يا

اقرأ المقال >>
22Asset 3

اشترك معنا لتصلك أحدث المقالات

Scroll to Top