وخيال الشِّعْر يرتاد الثريا

ما الشِّعْر؟ سؤالٌ حير الشِّعْراءَ والغاوين.. لكن فلنتخيل كيف سيكون العالم إذا لم يكتشف الإنسان وجوده في خوافي نفسه البعيدة؟ لربما كان عصياً التعبير عن المشاعر والأفكار بعيدة الغور والخفيّة، ولربما لم نشهد تطور المعرفة البشرية على هذا النحو المطرد. ولأن الخيال اللغوي هو مادة الشِّعْر الأولى، ولأن “اللغة هي بيت الوجود” وحاملة الفكر والعلم والثقافة، ولأن اتساع طاقات اللغة لا يحدث سوى بتطورها، والشِّعْر هو وليدها المدلل، وفي ذات الوقت كاشف طاقاتها، لتتمكن من استيعاب المعرفة، فإنه لا بد من الشِّعْر وإن غاب تحت وطأة روتين الحياة الحديثة.

ومن دلائل أبجدية الشِّعْر في الحياة، أنه ما من شعب، مع تنوع اللغات، خلَتْ فنونُه منه، ولا مِنْ زمانٍ خلا من صداه، حتى أصبح دليلاً فاضحاً على وجود الإنسان.

ولأن الشِّعْر كما يرد في الموروث العربي، “ديوان العرب”، فإن ظهور فكرة الاحتفال بيوم الشِّعْر العالمي كانت وليدة شرعية للشِّعْراء العرب، حين أطلق الشِّعْراء الفلسطينيون الثلاثة محمود درويش، وعز الدين المناصرة، وفدوى طوقان، نداء إلى مدير عام اليونسكو في العام 1997، طالبوا فيه بضرورة تسمية يوم عالمي خاص بالشِّعْر؛ ثم تلا ذلك في العام التالي تقديم طلب مماثل من قبل مثقفين مغاربة في (اللجنة الوطنية المغربية)، حتى صدر قرار اليونسكو بتخصيص الحادي والعشرين من مارس يوماً للشِّعْر العالمي.

ومن المُصادفات الحميدة، أن يكون يوم الشِّعْر العالمي موافقاً ليوم الأم، أليس الشِّعْر أماً رحيمة حملت أفكار الإنسانية عبر العصور؟ 

يحدث أن يقرب الشِّعْر الأفكار البعيدة، ويحدث أن يعيد اكتشاف العلاقات بين موجودات العالم، فهو يتوسل الخيال في بنائه ويمضي باللغة في شجونها البعيدة ليعبّر عن آفاق الإنسان وتطلعاته وحنينه إلى كل ذرة تراب في هذا العالم البديع، ويصل إلى أعلى نقطة في الخيال لم تُرْتَدْ من قبل.. أو كما قال الشاعر السوداني صديق مدثر: “لا تقل إني بعيد في الثرى فخيال الشِّعْر يرتاد الثريا”.

إن وعي الإنسان بالشِّعْر هو وعي بإنسانيته أولاً، وطريق لاكتشاف العالم على ظهر اللغة، مركبة الإنسان على كوكب الأرض منذ أقدم العصور. 

وفي الحديث الشريف ورد “إن من الشِّعْر لحكمة”، وفسر المفسرون الحكمة في الحديث بأنها مما يمنع الجهل أو الإصابة في القول.. ولذا كثيراً ما نجد أبياتاً من الشِّعْر حاضرة في حياتنا، رغم أن ناظمها قد يكون في عصر سحيق لا ينتمي لعصرنا، وهذا، لعمر الشِّعْر، ما يعد من أسراره الخالدة. فكثير منا يستشهد بأشعار المتنبي وزهير بن أبي سلمى، ولبيد وأبي العلاء وبشار وأبي تمام، وغيرهم من شِّعْراء العربية الكبار.

لكن ظلَّ تعريف الشِّعْر عصياً على البشر حتى اليوم، وجهد النقاد واللغويون والفلاسفة في تعريفه، حتى صار كل كلام عنه وجه من وجوه معرفته، ومن ذلك الكتاب المنسوب للفيلسوف الإغريقي أرسطو طاليس “فن الشِّعْر” الذي دخل إلى العربية في عصر الترجمة في الدولة العباسية، وقد لخصه فلاسفة كابن سينا والفارابي، وأيضاً سميِّه الآخر “فن الشِّعْر” للشاعر الغنائي والناقد الأدبي الروماني هوراس، وقد أُلِّف قبل الميلاد، وكذا عرّفه الناقد العربي الرائد ابن قدامة المولود في  سنة 541 هـ، في كتابه نقد الشِّعْر بأنه “قول موزون مقفى يدل على معنى”، وعرّفه المفكر العربي عبد الرحمن ابن خلدون بأنه “الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والرويّ، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وما بعده، الجاري على أساليب العرب”، وذهب الناقد المصري عباس العقاد إلى أنه “صناعة توليد العواطف بواسطة الكلام”. 

ومع تنوع كل تلك التعريفات التي لم تحط به خبراً حتى لحظتنا هذه، تبرز مأساة الشِّعْر في قول الشاعر الجاهلي عنترة ابن شداد: هل غادر الشِّعْراء من متردم؟.. وهو السؤال الذي لم يخبُ أواره لدى كل شاعر حتى عصرنا.. فهل ترك لنا الشِّعْراء منذ بدء خليقة الشِّعْر ما يقال؟!



شارك المقال مع أصدقائك
صناعة المحتوى

للكُتاب المستقلين، أيهما أجدى: التسعير بالكلمة، أم بالصفحة؟

اتخذَ مجال الكتابة مساحةً واسعةً لدى المستقلّين؛ إذ يُواكب مبدعو هذا المجال الطلب العالي والميزة التنافسية النامية لكتابة المحتوى وصناعتِه بأشكاله كافةً، لكنّ الأغلبية العظمى منهم تواجه معضلةً مشتركة؛ إذ يتحيَّر الكُتاب -خصوصًا في بداية مسيرتهم في العمل الحُر- في مسألة تسعير خدماتِهم، فهل الأجدى أن نسعّرها حسب عددِ الكلمات، أم عددِ الصفحات، أم مجال

اقرأ المقال >>
22Asset 3

اشترك معنا لتصلك أحدث المقالات

Scroll to Top