رحلة الحج.. مجمع الثقافات

“ذَرَعَتْ كُلَّ إفريقيا وهي لا تفترُ
وسواكن وجهتها – بحرها الأحمرُ
فالحجاز
إنها الآن في شارع من مدينتنا
فانظروا
ها هي الحاجة
ربطت طفلها بحزام
على ظهرها – وجهه الأغبرُ
عظمة نتأت من عظام
مائل رأسه الضخم: فرخ نعام
تطلع من بيضة دهشاً، أو كما يفعل الكنغرُ
وسعت في الطرق
يا ترى ما اسمها
يا ترى أي هم
جال في جنبها وهي أم”..

إنه مقطع من قصيدة “الحاجة”، للشاعر والدبلوماسي السوداني، صلاح أحمد إبراهيم يسرد فيها، قصة إحدى الحاجات من غرب إفريقيا وهي في طريقها إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج مروراً بمدن السودان من شرقه إلى غربه، وحتى وصولها إلى ميناء بورتسودان، قاصدةً ميناء جدة. في هذه الرحلة من الغرب إلى الشرق، والتي اشتهر حجاج غرب إفريقيا – قبل انتشار سبل السفر الحديثة – بعبورها راجلين، وقد تستغرق سنوات؛ تنفتح آفاق من تعرف الإنسان على أخيه الإنسان، وتنشأ حيوات أساسها التعارف وقبول الآخر والتمازج الثقافي، يرصدها صلاح أحمد إبراهيم بدقات قلبه الصادقة الشاعرة.

ويروي كتاب “تحفة الأنظار في غرائب في الأمصار وعجائب الأسفار” لـ”ابن بطوطة”، رحلته من “طنجة” مسقط رأسه، ناوياً حجَّ بيتِ اللهِ الحرام، في القرن الثامن الهجري. وقدّر زمنُ رحلاته بحوالي ثلاثينَ عاماً، وقد أملى على «ابن جزي الكلبي» تَفاصيل تلكَ الرحلات. ووصف «ابن بطوطة» الأماكنِ والمدن التي زارها، وسبر غور طبائع الشعوبِ المختلفة التي عاشرها في رحلته، إضافة إلى القصص البديعة، التي جعلته منه رائداً لأدب الرحلات في الأدبِ العربي.

تآلف روحي عميق

الآن، وقد صارت وسائل السفر أكثر سرعة وتقدماً وراحة، وأقل عنتاً ومشقة، يلتقي المسلمون من شتى بقاع العالم ومقصدهم واحد، هو تلبية الأمر الرباني بالحج، ومنافع أخرى منها التعارف والتآخي بينهم.

يقول جل وعلا في كتابه الكريم في سورة الحج: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم). وأحد تلك المنافع هو تعزيز روح الأخوة والتعارف الثقافي بين المسلمين.
إن التآلف الروحي العميق بين مسلمي الدنيا في أيام الحج المباركة، يدفع روح تقبل الثقافات المختلفة، وتبادل الخبرات الشعبية بين مختلف المجتمعات المسلمة، ويحقق شكلاً من الوحدة الإنسانية نادراً ما يتحقق في أي فعالية ولو أقيمت من أجل ذلك. فإضافة إلى أن الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فهو فرصة لتعميق القيم الإنسانية العليا، مثل المساواة بين المسلمين بمختلف أشكالهم وألوانهم وثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، في رقعة تحمل القداسة المكانية.

حديثاً كانت أجواء مكة ملهمة للأدباء والروائيين. تقول الروائية السعودية رجاء عالم، صاحبة رواية “طوق الحمام” التي استلهمتها من أجواء مدينة مكة المكرمة، في لقاء صحفي: “أعتقد أنني محظوظة بالولادة في بقعة يتعارف خمس سكان الأرض على كونها بيتاً لله، وبهذه المجاورة أو المعاشرة والخروج عن نطاقها والرجعة إليها تولدت لدي قناعة بأن أي بقعة تحمل احتمالات العوائق والحدود”.

أهمية روحية

ومنذ دعوة أبي الأنبياء، إبراهيم عليه السلام ربه، حين ترك ابنه إسماعيل عليه السلام رضيعاً وزوجته هاجر، خضوعاً وامتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، بالرقعة المباركة: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)، منذ تلك الدعوة، هوت الأفئدة إلى البيت الحرام، وشدت الرحال إليه من كل حدب تنشد التقرب إلى رب البيت بالحج. 

إن الوعي بالأهمية الروحية للبيت الحرام، كان سابقاً لبزوغ فجر الإسلام، فجعل لسكان مكة من قريش مكانة لا تدانيها مكانة لدى العرب. وامتد هذا الوعي مع الدعوة المحمدية والخلافة الراشدة، وما بعدها. 
كان هذا الوعي التاريخي المتراكم، بالقيمة الروحية للبيت الحرام لدى المسلمين في المشارق والمغارب، أساساً استندت عليه المملكة العربية السعودية في رؤيتها لتطوير المشاعر المقدسة البيت الحرام بمكة المكرمة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالمدينة المنورة، وتهيئتها لعموم المسلمين لأداء مناسك الحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي بالمدينة المنورة.

معانٍ لا تُدرك

وتستقبل المدينتان سنوياً مئات الآلاف بل الملايين من المسلمين من جميع أنحاء الدنيا، المتوجهين بأفئدتهم وأجسادهم إلى رب العباد. وفي ذلك معانٍ قد لا تدرك أقاصي حدودها عقولنا، لكن ما ظهر من تلك المعاني يتجلى في شرف مهمة العناية بركن الإسلام الخامس ومهوى أفئدة المسلمين، وهو شرفٌ يمكن أن نراه من وجهين: أولهما مكانة المملكة العربية السعودية في نظر المسلمين قاطبة، وثانيهما، مكانة الشعب السعودي بين الشعوب المسلمة.

إن تفاعل هذين الوجهين، جعل من السعودية مسرحاً لتلاقح الثقافات والتبادل الثقافي بين الشعوب المسلمة، فمن إندونيسيا في الأقصى الشرقي في آسيا، وحتى السنغال، في أقصى غرب إفريقيا، ومن تنزانيا جنوبا حتى تركيا شمالا، وأكثر من ذلك في بقاع الدنيا؛ تهفو القلوب حاملة معها ثقافاتها المتنوعة، التي يندر أن تجتمع في مكان غير مكة المكرمة وزمان غير ذي الحجة من كل عام.
هذا التلاقي الثقافي دفع حكومة المملكة إلى تدريب متحدثين بمختلف اللغات، للتعامل مع جميع الحجاج من كافة أنحاء العالم وإرشادهم.
ومن معاني ذلك الشرف العظيم أيضاً، رحابة الاستقبال التي يبديها الشعب السعودي لكل شعوب العالم في هذه الأيام المباركة، إذ يستقبل المواطنون السعوديون الحجاج من مختلف أنحاء الدنيا بالورود والقهوة السعودية، وقبل ذلك، بأريحية قلوبهم، فترتسم في الذاكرة الجمعية للمسلمين صورة يحفّها الامتنان لشعب يتشرف بكونه خادماً لزوار بيت الله الحرام، وما أجلها من صورة! وما أعظمه من أجر!

إن كانت كثيرٌ من الدول تسعى عن طريق الدبلوماسية الثقافية أو القوة الناعمة إلى تعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب والدول، فإن المملكة العربية السعودية، تهيأت لها مقومات ذلك، بما يجعلها في مكانة عليا بين دول الإقليم والعالم.

شارك المقال مع أصدقائك
الدبلوماسية الثقافية

هل تُمكّن الملاعب دهشة اللغة؟

الضحكة التي ملأتنا بعد صفارة الحكم في أستاد لوسيل لم تكن لأجلِ الفوز ذاته فقط، بل للفرحة التي انتشرت كالبرق من الدوحة حتى جبل طارق بفوز منتخبنا السعودي والمغربي، الفرحة التي رقصَ معها العالم العربي بهتافات عربية واحدة؛ ملأت البيوت ضحكاتٍ ودهشة لا تسعها وحدها.. ضجيج الهوية الذي صاح به فوز المونديال أعاد لنا أملا..

اقرأ المقال >>
صناعة المحتوى

اللغة بيت وجود العربي

هذه لغتي ومعجزتي، عصا سحري، حدائق بابلي ومسلتي, وهويتي الأولى, ومعدني الصقيل ومقدس العربي في الصحراء, يعبد ما يسيل من القوافي كالنجوم على عباءته, ويعبد ما يقول لا بد من نثر إذا, لا بد من نثرٍ إلهي لينتصر الرسول… عبر قصيدته “قافية من أجل المعلقات”، يلخص الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، العلاقة الوجودية بين العربي

اقرأ المقال >>
22Asset 3

اشترك معنا لتصلك أحدث المقالات

Scroll to Top